ولدت المائدة السورية منذ أربع سنوات بعد لقاءٍ بين منفيين ومنفيات سوريين وسوريات وبين مناضلين ومناضلات من مونتروي: أثناء احتلال منفيين ومنفيات جامعة باريس الثامنة سنة 2018 وتحرّكات طلابية أخرى سنة 2019، وكذلك أثناء حركة السترات الصفراء. ومن هنا، قرّر بعضنا الاجتماع لنفكّر ثمّ لنبني معاً ما سيصبح المائدة السورية في مونتروي
أثناء لحظةٍ انتقالية داخل تجمّعنا وبدلاً من أن نستأنف مباشرةً طوراً جديداً من العمل، قرّرنا أن نخصّص وقتاً للعودة إلى أهداف المشروع الأوّلية من أجل وضع حصيلة لما وصلنا إليه كان إيجابياً أو سلبياً. استغرقت هذه العودة النقدية ستّة أشهرٍ تقريباً. وبعد التفكير، قرّرنا نشر هذه الحصيلة حرصاً منّا على شفافية عملنا وكذلك رغبةً منّا في مشاركة الخلاصات التي توصّلنا إليها.
نوايانا وبداياتنا
خطرت في بالنا فكرة تأسيس مائدة شعبية مستوحاة من تجربة مائدة البيرينيه (الانفتاح على الحيّ، السعر الحرّ، دعم النضالات والمشاركة فيها وغير ذلك) أثناء بحثنا عن فضاءٍ مشتركٍ يمكن أن يجمع السوريات والسوريين في المنفى، وكذلك المناضلات والمناضلين من مختلف الجنسيات ومن سكّان مونتروي. آنذاك، تمثّل هدفنا في العثور على طرائق ملموسة لجعل الروح الشعبية والذاتية التنظيم الخاصّة بالثورة السورية تعيش في مونتروي. كان لدى كلٍّ منّا إرادة الخروج من ذاته الخاصّة وترسيخ انخراطه السياسي في ممارسةٍ اجتماعية. فضلاً عن ذلك، الطعام يجمع، في سوريا وفي أركان العالم أجمع. كذلك، كان تأسيس مائدةٍ طريقةً للتحرّر من فهمٍ للسياسة يركّز على الشعارات والمصطلحات الكبيرة، وذلك للمضيّ نحو شيءٍ ملموسٍ على نحوٍ أفضل في الحياة العملية واليومية. هكذا بدأنا في أيلول/ سبتمبر 2019 نطبخ سويّةً مرّةً في الأسبوع.
وبالفعل، لم يكن لدينا آنذاك قاعدة سياسية مشتركة دقيقة تماماً لكنّنا نجحنا في الاتفاق على بعض المبادئ الإيجابية وكذلك على الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها. تمثّلت الفكرة في خلق فضاء لقاءاتٍ و عون متبادل انطلاقاً من مائدة. بدأنا إذاً بتنظيم نشاطات اجتماعية وثقافية وفنّية مختلفة لتكون رافعةً للقاء أشخاصٍ جدد والتعريف بالثورة السورية وتسهيل فهم رهاناتها. كما تمثّل هدفنا في إحياء فضاءٍ من التنظيم الذاتي للسوريات والسوريين ولأشخاصٍ منفيين آخرين.
التنظيم في المنفى طريقةٌ للإيمان بأنّ التغيير ممكنٌ دائماً، بأنّ الثورة ليست حلماً مثالياً، بأنّ المنفى ليس نهاية انخراطنا السياسي. وقد أصبح هذا الأمر أكثر أهمية بالنسبة لنا على ضوء الوضع البالغ الصعوبة على الأرض منذ عسكرة النزاع في سوريا. نحن نؤمن بالأهمّية الكبرى لترديد صدى الحركة الشعبية والذاتية التنظيم من المنفى، وهي حركةٌ تمثّل من وجهة نظرنا عنصر الأساس في العملية الثورية في سوريا. وقد أتى الحراك مؤخّراً، ولاسيّما في السويداء، ليثبت هذا الأمر. لقد فهمنا،مع تتبّع مسار الثورة السورية عن كثب، بأنّنا لا نستطيع اختزال الثورة بمجرّد إسقاط بشّار. فعندما تجرّأت الثورة على قول لا لنظامٍ إباديٍ في جوهره، كانت لها آثارٌ عميقةٌ في مجمل المجتمع عبر رفض أشكال الطغيان كلّها. نحن نعتقد بأنّ التجربة الاستثنائية للمجالس المحلّية ـ وهي مؤسّساتٌ ثوريةٌ أدارت ذاتياً المدن المحرّرة من سيطرة النظام طيلة سنوات ـ تمثّل سقوط الدكتاتوريات عن طريق الفعل.
تمثّل هدفنا، ولا يزال، في سدّ ثغرات الدعم في الخارج بشكل عام و فرنسا حصراً. إذا نظرنا إلى مونتروي وحدها، تمّ بلوغ هذا الهدف إلى حدٍّ كبير، ونحن نعلم أنّ هذا الأمر ليس مرتبطاً بنا فحسب. إذ أصبحت الرسوم الثورية والملصقات باللغة العربية مألوفةً على جدران المدينة، كما وُضع تمثالٌ تحيّةً للحرّية والحياة في مدخل المدينة بمبادرةٍ من منظمة ناجون السورية ؛ كما أنّ معظم الأماكن الجماعية السياسية لم تعد تتردّد في استقبال مناسباتٍ تتّصل بسوريا، بل إنّها احتشدت إلى جانب أشخاصٍ عديدين لتقديم دعمٍ غير مشروطٍ وثمينٍ عندما حدث زلزال 2023. لقد قرّرنا منذ البداية أنّ الترسّخ المحلّي أولويةٌ من أولوياتنا: أردنا، قبل أن نمضي إلى مكانٍ أبعد، الحصول على دعم وثقة أهالي الحيّ والمدينة والأشخاص الذين تشاركنا معهم النشاط السياسي على الأرض.
سوريا والأممية والمواقف السياسية
مستندين إلى هذا الترسّخ المحلّي، وبسبب تدويل النزاع في سوريا، حاولنا في الوقت عينه النظر إلى ما وراء الحدود بسبب اقتناعنا بضرورة تنظيم الشعوب والأقاليم بين بعضها، من مختلف الآفاق، وذلك استجابةً لمختلف أزمات هذا العالم. وقد نظّمنا سهراتٍ مختلفة دعماً لنضالات الشعوب في العالم (السترات الصفراء، نضالات السكّان الأصليين في كولومبيا، قضيّة تحرير فلسطين، التضامن مع المقاومة الأوكرانية، التضامن مع الثورة النسوية في إيران، بعد استيلاء الطالبان على السلطة في أفغانستان، دعم الثورة السودانية وغير ذلك من النضالات)، علاوةً على اللقاءات الأممية تحت شعار ‘الشعوب تريد’، وكانت هذه النشاطات وسائل للتواصل مع تجمّعات المنفيات والمنفيين و/ أو المهاجرات والمهاجرين من مختلف الأصول الجغرافية بهدف تبادل التجارب والمصاعب وسبل التغلّب عليها. من أجل تنظيم هذه اللقاءات، عقدنا صلاتٍ مع ثوريين وثوريات من العالم كلّه.
وبالفعل، لقد رفضنا حصر نشاطنا في فرنسا بسوريا أو بالبعد الإنساني أو الإداري الخاصّ بالمنفى أو اللجوء ؛ أردنا المساهمة في تغيير المكان الذي نسكنه، ولاسيّما بإسماع أصوات أشخاصٍ قادمين من أماكن أخرى وإبراز تحليلاتهم السياسية ووجهات نظرهم. وسواءٌ عبر نشاطاتنا أو عبر التنسيق مع مجموعاتٍ أخرى في المنطقة الباريسية، أردنا التشديد على المنفى بوصفه نقطة ارتكازٍ للنشاط السياسي وحاملاً للنقل الثوري. كان ضرورياً أن نرفض موقف الضحية فحسب حيث نتلقّى التضامن كصدقة، من أجل تحويل هذه العلاقة إلى تضامن متبادل. نحن نتمسّك إذاً العون المتبادل بين الشعوب أكثر ممّا نتمسّك بالتضامن باتّجاهٍ واحد. ثمّ إنّنا وعينا تماماً ضيق الفضاء السياسي المتوفر في فرنسا في ما يخصّ تنظيم المنفيات والمنفيين ذاتياً، سواءٌ قدِموا من سوريا أو من أماكن أخرى. شيئاً فشيئاً، تشكّل مجتمعٌ يحتذي بالمائدة السورية (منفيون ومنفيات أجانب وسكّان الحيّ)، شارك في إحياء فضاءٍ متنوّعٍ وعابرٍ للقوميات.
شكّك جزءٌ من المجتمع السوري (وأحياناً بعض الفرنسيين والفرنسيات) بخياراتنا بخصوص البُعد الأممي. بدا إفساح مجالٍ واسعٍ والتنسيق بيننا وبين النضالات والتجمّعات في الخارج غريباً في أفضل الأحوال، وعديم الفائدة في أسوأ الأحوال نظراً للوضع الكارثي في سوريا، وبصفتنا تجمّعٌ بُني أساساً حول الثورة السورية و ترسّخ محلّياً. وهذا قد يفسّر الانخراط الخجول والنادر من الرفاق السوريين والسوريات من خارج تجمّعنا في نشاطات ‘الشعوب تريد’ أو في الديناميكيات الأممية. لكنّ تفكيرنا كان ويبقى ما يلي : أحد العناصر التي كلّفت المكوّنات الديمقراطية والتقدّمية في سوريا ثمناً باهظاً هو تحديداً نقص الدعم الخارجي. حدث ذلك جزئياً بسبب نقص الصلات المسبقة بين المناضلات والمناضلين في سوريا والخارج. دعوة الأخرين لدعم نضالنا لا يكفي، بل نحتاج أيضاً للاهتمام بنضالات الآخرين (مع صعوبة رؤية أنّ تلك النضالات كانت أحياناً قليلة الانفتاح على وقائع مختلفة كواقع الثورة والحرب في سوريا) بهدف خلق صلات ثقةٍ وتحالف. من أجل أن يكون الحراك الثوري القادم في سوريا أفضل دعماً، من أجل ألّا نعيش تخلّي العالم وعدم اكتراثه بعد الآن.
على الرغم من المبادرات الإنسانية العديدة من أجل سوريا، لم نكن حتّى وقتٍ قريبٍ قادرين على التنسيق مع أشخاصٍ داخل سوريا. غير أنّ طموحنا كان ولا يزال بناء صلاتٍ سياسيةٍ تتجاوز الاستجابة للأزمات والكوارث. مع التحرّكات الحالية في سوريا، تمكنّا في نهاية المطاف من التواصل مع مجموعاتٍ جديدةٍ تنظّم نفسها في سوريا ونتشاطر معها رؤىً ومبادئ عديدة. هذا العمل في بداياته ولا نستطيع بعدُ التنبّؤ بما سيؤل إليه.
عموماً، لم يكن سهلاً دائماً التواصل مع تجمّعاتٍ أخرى للسوريين في باريس أو إطلاق ديناميكياتٍ لتعزيز التنظيم الذاتي للمجتمع السوري هنا. علاوةً على العقبات والمشكلات المرتبطة بالحياة في المنفى، انطلق عملنا في وقتٍ بدأت فيه الطاقة الثورية والنضالية في المنفى تتعب وانتشر شعورٌ منطقيٌّ بالهزيمة وفقدان الأمل. لم نكن قادرين على إعادة إشعال الشرارات اللازمة. على الرغم من ذلك وعندما حدث زلزال شباط/ فبراير 2023، استطعنا الاستجابة لوثبات التضامن والتنظيم الذاتي للمجتمع السوري المنفي في فرنسا واستطعنا استقبال المبادرة الرائعة ‘استجابة باريس’ التي تكفّلت بجمع المساعدة الإنسانية وإرسالها إلى سوريا. إنّ التنظيم بين المنفيات والمنفيين في بلدٍ أجنبي أمرٌ بالغ الصعوبة وغير بديهيٍّ أبداً، ولاسيّما عندما يتعلّق الأمر بسوريا، بكلّ الصدمات والآلام وخيبات الأمل الناجمة عن سنواتٍ طويلة من الحرب والمجازر والتدخّلات الخارجية.
ثمّة عنصرٌ آخر يمكنه تفسير الفشل الجزئي في تنظيمٍ أفضل مع مجموعاتٍ من الشتات السوري. ربّما يكون الخطّ الذي تبنّيناه، وهو خطٌّ شديد التطلّب والجذرية : سواءٌ تعلّق الأمر بمواقفنا في فرنسا، وهي مواقف مناهضة للحكومة ومناصرة لحركة السترات الصفراء مثلاً، ورفضنا الممارسات التجارية وأيّ روحٍ تنافسية أم دفاعنا بصورةٍ خاصّة عن تجارب التنظيم الذاتي في سوريا ورفضنا لأجسام المعارضة و التمثيل السياسية "من الأعلى". وهي مواقف جعلتنا أحياناً أقرب سياسياً إلى خطوط وسط اليسار الراديكالي في فرنسا من المجتمع السوري في المنفى.
أخيراً، حدثت محاولتان لتأسيس موائد سورية في بلدانٍ أخرى، لكنّ هذه المحاولات لم تستمرّ. ونحن لا نيأس من ظهور محاولاتٍ جديدةٍ من النوع عينه في المستقبل، سواءٌ أكان لها الاسم نفسه أم لا.
رهان التنظيم الذاتي بهدف منافسة المنظومة الرأسمالية
من أجل تنظيم أنفسنا وتحضير الوجبات وتنظيم الفعاليات ونسج شبكةٍ عابرةٍ للقوميات، راهنت المائدة السورية على التنظيم الذاتي. عملياً، نظّمنا أنفسنا ضمن حلقتين. أوّلاً نواةٌ مدارةٌ ذاتياً تتكوّن من الأعضاء الدائمين الذين اختاروا جعل المائدة السورية التزاماً مهمّاً لهم. كانت هذه الحلقة مسؤولةً عن المواقف السياسية وخيارات النشاطات والشؤون الإدارية. ومن أجل الانتماء إليها، كانت هنالك ضرورةٌ لتلبية معايير معيّنة: أن يكون نصف الأعضاء على الأقلّ سوريين أو سوريات؛ عدم تجاوز نسبة الرجال خمسين بالمئة؛ دعم الثورة السورية فعلياً؛ الموافقة على تقاسم مسؤوليات المشروع. ثانياً: يتكوّن "مجتمع المائدة السورية"، وهو أقلّ تطلباً من حيث المسؤولية، من أعضاءٍ ملتزمين بالقضية السورية ونشاطات المائدة لكنّ مشاركتهم أقلّ انتظاماً أو ديمومةً (لكنّها أساسيةٌ في كثيرٍ من الأحيان!).
بعد انقضاء بداياتنا ومع الرغبة في توسيع نشاطنا من أجل المضيّ إلى مدىً أبعد، سرعان ما شعرنا بالحاجة إلى الحصول على مقابلٍ ماديّ. كانت الأمور واضحة: لم نكن قادرين على مواصلة مزيدٍ من الانخراط في المشروع طالما أنّنا نحتاج إلى العثور على عملٍ لتلبية احتياجاتنا المادّية. كان واضحاً أنّ المائدة السورية ستحتاج إلى الحصول على السبل اللازمة كي يعيش أعضاؤها من المشروع ويتمكّنوا من تكريس طاقاتهم لاستمراره. فقرّرنا أن تكون الأولوية لحصول الأعضاء السوريين في الفريق على مقابلٍ مادّي. احتجنا وقتاً لكنّ المائدة أصبحت وسيلة عيش أعضاء الفريق كافّةً، أو إحدى تلك الوسائل: تسعة أشخاصٍ في الحدّ الأقصى. هكذا وضعنا منظومةً تعاونيةً سياسية واقتصادية في آنٍ معاً، من دون تراتبيةٍ في القرار أو الأجر. بعباراتٍ أخرى، لكلّ عضوٍ رأيه بصدد طريقة تنظيم نشاطات التعاونية وراتبٌ مساوٍ يتناسب مع وقت عمله.
كانت المائدة السورية ولا تزال معتمدةً على مساعدات مؤسساتية، تدافع عن مبادئ غير بعيدةٍ عن مبادئنا. وهو حلٌّ غير مثاليٍّ لكنّه يسمح لنا بعدم الدخول في منطق المردودية الرأسمالية والإنتاجوية، والتغلّب على نقص الموارد وصعوبات المنفى، مع مواصلة العمل السياسي. نحن نحاول العثور على حلولٍ اقتصاديةٍ بديلةٍ ونفكّر على نحوٍ أكثر جدّيةً بكيفية الوصول أكثر إلى وضع أكثر استقلالاً.
ما يبدو لنا أساسياً هو التمكّن من تقديم خدمات عالية الجودة من دون تحديد أسعار (لذلك السعر حر) تقصي مشاركة الأكثر هشاشة اقتصادياً. لكنّ التحدّيات كثيرة: أن يكون أداؤنا أفضل من الدولة والمؤسّسات الربحية مع استمرار استقلاليّتنا؛ ابقاء الجانب الشعبي التضامني و اختراع أساليب جديدة لاستقبال جميع الفئات الاجتماعية و الأجنبية خاصّة التي لا تجد نفسها تلقائياً ضمن الأجواء أو الرموز النضالية الفرنسية. بالنسبة إلينا، لطالما كانت محافظتنا على مستوىً جيّد من الخدمة والنظافة والاستقبال رهاناً سياسياً بهدف جعل مائدتنا فضاءً منفتحاً على مختلف العوامل. سؤال الكرامة متعلق بالجودة وإمكانية الوصول غير المشروطة اليها. نحن مقتنعون بضرورة الالتزام بهذه المعيار لمحاولة ابطال بشكل حقيقي و واقعي حتمية المنظومة الرأسمالية.
مصاعب الإدارة الذاتية
نلاحظ أنّنا لم ننجح في خلق نواةٍ تنظيميةٍ ثابتة وواسعة في حين أنّنا تمكنّا من خلق مجتمعٍ محلّيٍ جميل وشبكة تحالفاتٍ واسعة. لاحظنا صعوبةً في جعل الأعضاء الجدد ينخرطون على نحوٍ مستدامٍ في مشروعٍ جماعيٍّ كمشروعنا: إمّا بسبب مشاريع شخصية (دراسة، تغيير مكان السكن، طموحات مهنية، وما إلى ذلك) أو عدم القدرة على استيعاب ديناميكيات المشروع أو بسبب النزاعات الداخلية ذات الصلة. لاحظنا مقاومةً للانشقاق عن طريقة العيش والعمل السأدة وما يؤدّي إليه كأسلوب حياةٍ (على الرغم من إمكانية الحصول على أجر مقابل المشاركة في المشروع). يمكن أن تكون الأسباب عديدةً ونحن نواصل التفكير فيها (الضغط العائلي، الرغبة في أجرٍ أكبر، ثقَل العمل الجماعي، نقص شعور الانتماء إلى مشروعٍ من دون المساهمة في تأسيسه، وغير ذلك).
مع أوضاعٍ مختلفةٍ إلى حدٍّ ما للأشخاص المنخرطين من حيث العمر والوضع الإداري وروابط التقارب والمسار السياسي والقدرات، اخترنا نظاماً داخلياً للحوكمة الذاتية رسمياً إلى حدٍّ ما، حتّى إن لم يكن جامداً وتتمّ مناقشته كلّ ستّة أشهر بهدف تحسينه. لم نشأ إفساح المجال لموضوع التقارب، سواءٌ ارتبط بالسياسة أم بالصداقة أم بالعائلة. كان من المفترض أن تكون أهداف المشروع السياسية رباط المشروع أكثر ممّا هي العلاقات بين أعضائه. لكنّنا لاحظنا أنّ كثيراً من الأشخاص عبروا مختلف فضاءات المائدة بحثاً عن مجتمعٍ وليس بالضرورة بهدف الانضمام إلى مشروعٍ سياسي. وإذا كنّا لم نستبِق ذلك على نحوٍ كافٍ وكان هذا الأمر تغلّب أحياناً على أهداف المشروع السياسية، فنحن نفهم تماماً تلك الرغبات نظراً لحالة العالم الغربي ومجتمعاته: نقص العمل الجماعي، الانعزال العميق للأفراد، البؤس الاجتماعي والوجودي، وما إلى ذلك.
إنّ هذه الخيارات، التنظيم الذاتي الأفقي والمسؤولية الجماعية والإدارة الاقتصادية التعاونية, العمل السياسي بوصفه مصدر عيش وبقاء للبقاء والأهداف السياسية بوصفها ملاطاً للمشروع وغيرها من الخيارات، جعلت العمل متطلِّباً ولم تسمح بإمكانيةٍ كبيرةٍ للوصول إلى الحلقة المؤسِّسة للمائدة السورية، إذ إنّ النواة كانت بالفعل «قاسية». غير أنّ ذلك سمح بكسر عدّة أنماطٍ من التقوقع على النفس كان هذا الوسط الأبيض اليساري، الوسط السوري في المنفى أو وسط الطبقة الوسطى وبالتالي سمح بالقدرة على التنظيم بين أشخاصٍ من أفاق مختلفة. منذ البداية، كان ذلك أحد أهدافنا ورهاناً أساسياً. على الرغم من التطلّب ومن صعوبة الاستحواذ على المشروع بوصفه عملاً سياسياً، كانت الأمور جيّدةً عموماً (حتّى نزاعٍ سياسيٍ في السنة المنصرمة): نجحنا في ثلاث سنواتٍ في دفع مرتّباتٍ للفريق كلّه وبممارسة إدارةٍ ذاتيةٍ سياسية واقتصادية عبر إدخال أشخاصٍ جدد كان لهم منذ وصولهم القدرة عينها على اتّخاذ القرار ومدخولٌ مساوِ لأولئك الذين واللواتي كانوا هناك منذ بداية المشروع.
مثلنا كمثل أيّ مجموعة، عبرنا عدّة أنماطٍ من العلاقة بالسلطة جعلت المساواة والأفقية الرسمية أقلّ فعّاليةً في الوقائع في أوقاتٍ معيّنة. ولهذا السبب، وضعنا فضاءاتٍ وأدواتٍ للتحدّث عن ذلك وحرصنا على أي يكون لكلّ شخصٍ مساحات وأدوات للحديث ولقول رأيه في ما يخصّ القرارات المهمّة. لكن بعد أربع سنواتٍ من وجودنا، نستطيع ملاحظة أنّ كثيراً من التوتّرات التي عبرت دينامياتنا الجماعية نتجت عن التباسٍ بين العمل والنضالية. فمن جانب، لم نشأ أن يكون عملنا كغيره من الأعمال نظراً لبُعد البناء السياسي فيه، لكن لم نكن نستطيع أن نعدّ نفسنا مجموعةً نضاليةً تقليديةً لأنّ عدّة أشخاصٍ باتوا يعتمدون عليها للعيش والحصول على أوراقٍ نظامية. مع أخذ هذا الأمر بالحسبان، تتّخذ الرهانات نبرةً مغايرة. فانخراط شخصٍ على نحوٍ دائمٍ لوقتٍ طويلٍ عنى ألّا تؤخَذ بالحسبان مشاركته في المشروع بوصفه عملاً "طبيعياً" على الرغم من الأجر المالي، لكنّ ذلك عنى أيضاً وجود مسؤوليةٍ وانخراطٍ كثيراً ما يكونان أكثر كثافةً إذا كان ذلك "عملاً عادياً". وبالفعل، أضاف التنظيم الذاتي لنا كثيراً من العمل (اجتماعاتٍ بشكل أساسي)، علاوةً على الجانب العملي. وعندما ننظر إلى الماضي، نرى أنّه كان واجباً علينا أن نكون أكثر انتباهاً للتشابك بين الجوانب السياسية والمهنية.
غير أنّنا لم نندم أبداً على خيار اعتمادنا على المائدة للعيش لكن في المستقبل، علينا أن نفكّر على نحوٍ أفضل بمسائل الاندماج والنقل و توزيعٍ أفضل للمسائل المتعلّقة بالحمل الذهني والنظرة الشاملة للمشروع، وليس فحسب تنفيذ المهام المتفرقة. فعلى سبيل المثال علينا العمل على توزيع و تشارك أهمّ فيما يخص التعامل مع الخلافات والنزاعات. من أجل التمكّن من أداء الوظائف الهيكلية، يجب التأكّد من امتلاك الوسائل اللازمة: الزمن والطاقة والقدرة على النقد الذاتي والرغبة في التدرّب والانخراط، وكذلك إرادة السماح للديناميكيات الجماعية بتحويل ذواتنا. يقتضي خيار الإدارة الذاتية أن تكون لدى الجميع، أو على الأقلّ لدى الأغلبية، الرغبة في أداء هذه الوظائف. ومن دون ذلك، لن ينجح هذا الخيار أو أنّ الأداء سيكون سيئ نوعاً ما.
بعد كثيرٍ من التعثّر، أدركنا أنّنا نظرنا إلى التنظيم الذاتي بوصفه بديهةً بدلاً من إتاحة الوقت الكافي للنقاش في ما يعنيه عملياً لتجمّعٍ كتجمّعنا. افتقدنا لنقاشاتٍ تأمّليةٍ حول الموضوع حيث كان ممكناً إجراء تحليلٍ أشمل لممارساتنا واحتياجاتنا، فضلاً عن النظرة النقدية للجوانب المتعثّرة. سنقدّم هنا مثالاً: حاولنا عدم التمييز بين عضوٍ جديدٍ وعضوٍ قديمٍ من حيث المسؤوليات والقدرات. لكن في الوقائع، كانت التباينات موجودة. على الرغم من الإدماج عبر الاستقطاب، أي المعرفة المسبقة وفترة من العمل معاً، من غير الممكن أن تكون المتطلّبات متطابقةً تجاه شخصٍ جديدٍ و قديم. كذلك، من غير الممكن تكوين معرفة مشتركة ومتشابهة في غضون بضعة أشهرٍ فحسب.
أثناء رسم حصيلة تجربتنا، أدركنا من جانبٍ أنّ بعض النزاعات نشأت بسبب انتقاد الإفراط في التنظيم الذاتي والمثالية، مع رغبةٍ في تحديدٍ أكبر للأدوار والاضطلاع بتقسيمٍ أوضح للعمل وفق الكفاءات. كما حدثت نزاعاتٌ أخرى لأنّ بعضهم/ بعضهنّ اعتقدوا على العكس من ذلك أنّ التنظيم الذاتي غير كافٍ.
من المؤكّد أنّنا رغبنا في وضع قواعد تستجيب لنموذج مثالي: على سبيل المثال، وضعنا نظام تدريبٍ اعتقدنا أنّه قادرٌ على تقليص الفوارق في الكفاءات والمعارف الموجودة ضمن المجموعة لجعل المهام أكثر تشاركية. وبما أنّ الزمن المتاح لهذه التدريبات بقي ثانوياً بالنسبة إلى مجمل المجموعة، فإنّ هذا الأمر لم يكن فعّالاً بما يكفي: لا تكفي جلسةٌ أو جلستان من التدريب أبداً، مهما كان الموضوع. لم يكن ممكناً إجراء جلساتٍ إضافيةٍ نظراً لكمّية المهامّ الأخرى، وهي مهامٌّ نظرنا إليها دائماً بوصفها تحظى بالأولوية. علاوةً على ذلك، حتّى بعد التدريب، ونظراً لأنّ اختيار المهامّ جرى على نحوٍ إرادي، طُرحت مسألة الرغبة والاستعداد: أشخاصٌ يحبّون القيام بأعمال إدارية أو تحضير الميزانية وآخرون لا يريدون أو لا يستطيعون فعل ذلك. كما أنّ الزمن مضى واستقرّت عاداتٌ خلقت شكلاً من الجمود الذي أصبح تحريكه أو خلخلته أمراً صعباً. باختصار: عندما بدأنا هذه المغامرة، لم نكن نعلم كم أنّ التنظيم الذاتي سيرورةٌ تجريبيةٌ حقيقيةٌ ودائمة. يمكن أن تتعارض مثل هذه الدينامية مع محاولات ترسيخ أساليب تشغيلٍ فعّالةٍ ومستدامة.
علاوةً على ذلك، فضّلنا أحياناً بحماسةٍ مشتركةٍ الطموحات السياسية بدلاً من التقدّم في مجال الديناميات الداخلية. وعندما أدركنا ذلك، خصّصنا أوقاتاً للعناية والنقد والنقد الذاتي لتفكيك التوتّرات. لكنّ أدوات العناية الجماعية لا تكفي من دون الحاجة المشتركة حقّاً لحلّ النزاعات أو لتجنّبها. كذلك، أدركنا أنّ بعض التوتّرات التي يعيشها تجمّعنا نجمت أحياناً عن تباينٍ في الأهداف أو الأولويات أو الاحتياجات أو الرغبات، لكن كان صعباً دائماً الإعلان عنها بوصفها كذلك. يتجسّد هذا التباين على سبيل المثال في أشخاصٍ كانوا يبحثون عن مجموعة تقاربٍ من أجل الدخول في السياسة في حين أراد آخرون بناء مشروعٍ سياسيٍّ منفتحٍ على الخارج، بالإضافة إلى أشخاصٍ كانوا يبحثون عن عملٍ وآخرين عن انخراطٍ نضالي، أشخاصٍ كانوا يريدون تكريس حياتهم لها وآخرين عابرين أو يريدون خوض تجربة، وما إلى ذلك. لم ننجح دائماً في التوفيق بين هذه الاختلافات. كما أنّنا لم نقدّر أهمّية الأشخاص الخارجيين في مساعدتنا في حلّ نزاعاتنا. لم نعرف كيف نلجأ إلى أشخاصٍ ذوي خبرة وكفاءة ومزوّدين بالأدوات اللازمة.
بعض المسارات
أخيراً وقبل الالتفات إلى المستقبل، نستطيع القول إنّ هذه السنوات الأربع شكّلت تجربةً تجاوزت توقّعاتنا على عدّة مستويات. أمّا بخصوص الأوقات الصعبة، فنحن نؤمن بالتعلّم وبأهمّية تراكم التجارب. وهذه الأوقات هي تحديداً تلك التي تدفعنا إلى التفكير وطرح الأسئلة وتجريب طرقٍ أخرى للعمل.
لقد دفعنا نقص المعرفة المسبقة والأمثلة المشابهة التي كان بوسعها إلهامنا وتعليمنا إلى تخصيص وقتٍ لكتابة هذه الحصيلة وتعميمها لأنّنا نعتقد أنّنا بحاجةٍ للتفكير في هذه المسائل جماعياً والتعلّم من تجربتنا وتجارب الآخرين، بنجاحاتها وإخفاقاتها. عبر محاولة التحدّث عنها مع أشخاصٍ يساهمون في مشاريع جماعية ذاتية التنظيم، يردّ علينا بعض الأشخاص بأسلوبٍ تبسيطي: الإدارة الذاتية تنجح... بالإدارة الذاتية. أنّه يكفي إضافة كلمة "ذاتي" هنا وهناك وأنّ الأمور تسير من تلقاء ذاتها بأسلوبٍ غامض.
نحن لا نؤمن أبداً بهذه الفكرة ونؤمن بأنّ هذا النمط من التأكيدات هو أفضل وسيلةٍ لإعادة إنتاج الإخفاقات وعلاقات الهيمنة الخبيثة. في رأينا، شرح أساليب التنظيم و لفظ التناقضات والمصاعب التي نعيشها أمورٌ أساسية، على الرغم من صعوبتها أحياناً، وسنواصل محاولة التحسّن على هذا الدرب.
أخيراً، إليكم واحدةً من خلاصاتنا الأهمّ: إنّ فكرة الإدارة الذاتية لا تعني فحسب غياب الرئيس أو المدير، بل كيفية تجسيد كلّ شخصٍ لهذا الدور (بأساليب مختلفة) من موقعهالخاص. ثمّة أمرٌ أساسي يجب العودة إليه: القدرة على اتّخاذ القرارات وامتلاك موقعٍ متساوٍ مسؤوليةٌ بقدر ما هي ميزة. تبقى المسؤولية المشتركة مفتاحاً لتوزيع السلطة.
اليوم، لم نفقد مثاليتنا بسبب المصاعب التي تعرّضنا إليها والمواجهة المنهكة أو المحبطة أحياناً مع وقائع الإدارة الذاتية. نحن أقلّ سذاجةً لأنّ هذه السنوات الأربع تدفعنا إلى استخلاص نتائج وإدراك إخفاقاتٍ وإجراء تعديلاتٍ وإعادة توجيه بعض تحرّكاتنا وأفكارنا. المثاليّ غير بديهيٍّ أبداً، ويصعب دائماً الوصول إليه، لكنّ ذلك لا يعني التغاضي أو التخلي عنه. بالنسبة إلينا، هذا الجانب المثاليّ من التنظيم الذاتي والمساواة ضمن مجموعاتنا هدفٌ نتمنّى دائماً التقدّم باتّجاهه.
نتائج مغامرة المائدة السورية و الشعوب تريد
التعلّم ضمن الاختبار
إمّا أن تؤدّي المصاعب إلى تطوّراتٍ أو إلى انفجارات. وكلّما عانينا إحدى تلك المصاعب، اخترنا التحوّل. حتّى اليوم، نشعر بمسؤوليةٍ وكذلك برغبةٍ عارمةٍ في مواصلة هذه المغامرة. لقد ظهرت تجمّعاتٌ جميلةٌ للمنفيين من الواصلين حديثاً إلى فرنسا، مثل استجابة باريس والبيت (سوريا) وصدفة (السودان) و روجا أو تجمّع 98 (إيران وكردستان وأفغانستان)، وهذا يشجّعنا ويجعلنا نشعر بأنّنا أقلّ وحدةً في وقتٍ يزداد فيه حجم كراهية الأجانب والعنصرية تجاهنا وتجاه رفاقنا من المهاجرين والمهاجرات والمنفيين والمنفيات.
لذلك، إذا ما كنّا قد كرّسنا وقتاً لتقديم حصيلةٍ عن تجربتنا منذ بدايتها في 2019، عن نجاحاتها وإخفاقاتها، فليس لطيّ صفحة المائدة السورية بل لفتح فصلٍ جديد.
قرارنا الأوّل، وهو مؤلمٌ لكنّه ضروري، هو الرحيل التدريجي من الفضاء الجماعي الذي نحن فيه إذ على الرغم من جهودنا المتنوّعة لتقاسم مكانٍ مع مجموعاتٍ أخرى، لم ننجح. فقد واجهتنا عقباتٌ عديدةٌ ترتبط بصورةٍ رئيسيةٍ بطريقة التنظيم وكذلك بمقتضياتنا واحتياجاتنا التي لم تشاطرنا إيّاها بالضرورة المجموعات الأخرى. ومن هنا نبع قرارنا في الرحيل تدريجياً وفي توقيف مائدتنا الأسبوعية (مع مواصلة ورشات الطبخ في البيت المفتوح) ريثما نعيد تحديد ملامح تتمّة المشروع ونعثر على فضاءٍ آخر.
نحن لا نرحل بمرارةٍ وضغينة. أحياناً، يجب الانفصال كي يتمكّن كلّ طرفٍ من الازدهار مجدّداً. وعندما نرى أنّ موائد من ساحل العاج أو المكسيك تأتي لتستقرّ في المكان، علاوةً على "السترات الصفراء"، نقول في أنفسنا إنّ النضال مستمر. لقد كان هذا المكان بالنسبة إلينا مرسىً حقيقياً لكنّه كان أيضاً نوعاً من توأمٍ لنا، رأيناه وشهدنا ولادته وتعثّره ونموّه. نتمنى لهذا الفضاء المتابعة في خلق عوالم جديدة وجميلة. .
حلم له شكلان
تدعونا الأمور التي تعلّمناها للخروج من نوعٍ من السذاجة التي تبنّيناها أحياناً و التخلّي عن عقدةالسوبرمان التي دفعتنا للاعتقاد بإمكانية فعل كلّ شيءٍ في الوقت عينه: أن نكون في الآن عينه شبكةً عالميةً ومائدةً رائعةً وفضاءً للتنظيم السياسي ومكاناً للتدريبات المتعدّدة، وما إلى ذلك. بالتوازي مع المائدة، كبرت "الشعوب تريد" بسرعةٍ كبيرة (هل كانت مفرطة؟) بما يشبه تنّيناً مكلفاً جدّاً من حيث الطاقة والزمن ويهدّد ابتلاع فضاء المائدة.
من الآن فصاعداً، نرغب في تخفيف سرعتنا، وبالأخصّ في فصل الأهداف والفضاءات بهدف العمل في كلٍّ منها على نحوٍ أقلّ لكنّه أفضل. هكذا، سوف تستقلّ الشعوب تريد عن فريق المائدة مع إبقاء بطبيعة الحال صلاتٍ وثيقة.
مائدة المستقبل
من جانبنا، نرغب في التركيز أكثر على فضاء المائدة وفي اقتراح المزيدٍ من الوجبات، بتواترٍ أكبر وبحيث تكون ألذّ طعماً. ولتحقيق ذلك، نحتاج لتطوير استقلاليتنا المالية واللوجستية عبر السعي للحصول على مكاننا الخاصّ في الضاحية الباريسية. من جانبٍ آخر، نرغب في مزيدٍ من العمل على مسألة الاستقلالية الغذائية من أجل بناء صلات تشاركٍ وتعاونٍ مع جماعاتٍ زراعيةٍ بهدف ضمان تموينٍ أكثر تلاؤماً مع رؤيتنا للعمل وللعالم.
إنّ مختلف خطط الاستقلالية التي نسعى إليها لا تعني أبداً الانعزال، بل تعني بناءً أفضل للاعتماد المتبادل وزيادة قوانا الجماعية. لن نكون راضياتٍ وراضين بأن نصبح مثالاً حسناً على « البديل المحلّي ». تعود كلّ قوّة اقتراحٍ البديلٍ إلى قدرتها على النظر إلى نفسها بوصفها جزءاً من حركةٍ ثوريةٍ عرضانيةٍ بدل التقوقع ضمن بعدٍ "بديلٍ" ثقافي أو اقتصادي أو في مجال النشاط الاجتماعي.
سيكون بناء هذا المكان الجديد تحدياً كبيراً يتطلّب من الحلفاء والحليفات العديدين دعماً، لكنّنا نؤمن أيضاً بأهمّية محاولة الحصول جماعياً على أماكن مستدامة في المدن الكبيرة. إذ يصعب علينا ترك هذه المدن في حين أنّ أغلب اللقاءات مع أصدقائنا وحلفائنا تُعقد فيها. لقد سبق لنا القول إنّ المدن، على الرغم من مشكلاتها كلّها، تبقى تقاطع طرقٍ كبيراً للهجرة والمنفى. سيكون مفيداً وجود بيتٍ مشتركٍ للاجتماع بين مختلف مجتمعات المنفى.
بالتوازي مع هذا البحث، ننوي أيضاً الاستفادة من هذا الانقطاع في النشاطات الأسبوعية عبر إجراء جولةٍ للتحريض على لقاءاتٍ جديدة وتعزيز الصلات الموجودة سابقاً. وبذلك، نواصل محاولة العثور على أصدقاء وحلفاء للّحظة الثورية، حالياً ومستقبلياً، في سوريا. يمكنكم إذاً مصادفتنا على الطريق في فرنسا، قرب مرسيليا أو روان أو نانت، وكذلك في ألمانيا ولبنان وربّما حتّى في أميركا اللاتينية.
الشعوب تريد... عوالم الغد
في ما يخصّ مستقبل مغامرة ‘الشعوب تريد’. قبل ثلاث سنوات وعلى أثر ثورات 2019، بدأنا جمع منفيين وثوريين وناشطين من الجنسين من العالم أجمع لنلتقي ونبدأ بتشارك ونقاش إمكانات التغيير الجذري في عصرنا. بعد أربع نسخ، ولاسيّما الأخيرة التي جمعت نحواً من خمسة آلاف شخصٍ من 53 بلداً وتضمّنت تعاوناً بين فضاءاتٍ وتجمّعاتٍ متعدّدة، انفتحت أيضاً صفحةٌ جديدةٌ من ‘الشعوب تريد’.
بالنسبة إلى النسخة الخامسة، لن تعقد اللقاءات القادمة إلّا في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024، والأرجح أن يكون ذلك خارج فرنسا. ونظراً لأنّنا نأخذ على محملٍ شديد الجدّية وعودنا، قد يكون مكان اللقاء أقلّ بعداً عن سوريا... علاوةً على هذا الرحيل من فرنسا، يتحوّل المهرجان إلى شبكة تعاونٍ أمميّةٍ تجمع مشاركين ومشاركات من القارّات الخمس بوسائل تواصلها الخاصّة وبيانٍ كتابيٍّ وأساليب لقاءاتٍ محلّية أو إقليمية في بلدانٍ مختلفة. في منظورنا تطوير مشروع تعاونٍ مادّيٍ كبير.
سيكون للمائدة السورية دائماً مكانها في هذه الديناميات لأنّه يصعب علينا تخيّل واحدٍ دون الآخر. بالنسبة إلينا، هذان شكلان متكاملان من عملٍ مشترك. مكانيّ ومترسّخ ويومي من جانب، وعابر للقوميات ومتّصل و عالمي من جانبٍ آخر. لا يمكن أن يمضي أحد الشكلين من دون الآخر إذا ما أردنا بناء قوىً مستقلّةٍ ثوريةٍ حقّاً.
هذه هي أحلامنا في ما يتعلّق بالمستقبل. نحن نعلم أنّها طموحةٌ ونأمل أن تبقى واقعية. لا نعلم بعدُ جيداً إن كنّا قادرين على تحقيقها؛ إذا لم يجعلها التعب أو النزاعات أو المشكلات أو العقبات الداخلية والخارجية التي نصادفها على دروب المنفى أو النضالات أو الانتفاضات ثقيلةً أو محبطةً أو مؤلمةً أكثر ممّا نتحمّل.
على كلّ حال، نحن متأكّدون جميعاً من أنّنا سوف نواصل المحاولة. نأمل أن نجدكم إلى جانبنا أو على الدروب التي ستسلكها أحلامكم الخاصّة. فعندما نرى حال العالم، ندرك ضرورة التجمّع والتنظيم للخروج من مجرّد البقاء وللعيش على نحوٍ أفضل وأخيراً مقارعة أولئك الذين واللواتي يحاولون منعنا من ذلك، وذلك أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
عاشت المائدة، عاشت الأحلام، عاشت الثورة!
شكر وتقدير :
قبل أن ننطلق في المرحلة الجديدة، نودّ شكر جميع أولئك الذين واللواتي جعلوا هذه السنوات الأربع ممكنة: جميع الأشخاص المتطوّعين والأعضاء القديمين في التعاونية، الموجودين منذ أربع سنوات أو الذين كانوا مجرّد عابرين. شكراً للرفاق والأصدقاء والصديقات والمتعاطفين الذين آمنوا بنا أو انضمّوا إلينا أو دعمونا، حتّى في الأوقات الصعبة. شكراً لجميع الفنّانين الذين واكبونا على الدرب..
الشكر الحارّ لكلّ الأماكن والتجمّعات التي وثقت بنا ففتحت لنا أبوابها بحرارة : بدون هذه الأماكن، لما وُجدت المائدة السورية، ولا الشعوب تريد.
أخيراً، شكراً لكم لتكريس وقتٍ من أجل قراءة هذه السطور. نأمل أن تكون مفيدةً لكم.
إلى لقاءٍ قريب!